الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالمتكلم يعلم أن شقيقاً عالم بوجود الرماح في بني عمه، وأنهم مستعدون للحرب معه، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد، بأن وضع رمحه أمامه معترضاً فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد، وهكذا هنا، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إلخ. إي وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب.المسألة الثانية من قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6] يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهو يعلمون هذا حقيقة غالباً ولا يطلع عليه الطرف الآخر، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه، ولذا قال تعالى: {يوم يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} ولم يقل: يوم يقتص لكل إنسان من غريمه، ويستوفي كل ذي حق حقه.تحذير شديد:قال القرطبي عند هذه الآية: وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أخوال المسلمين بلا كيل ولا وزن. اه.إِنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أياً كان هو، وبأي وجه يكون ذلك.تنبيه:من الملعوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه، فالمطفف لابد أن يخفي طريقه على غريمه.وذكر علماء الحسبة طرقاً عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة، وللمتعامل مع غيره عامة، أن يتنبه لها.من ذلك قالوا: أولاً من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال ليناً فيضغطه بين يديه، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلباً، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله.ومنها: أنه قد يكون خشباً منقوراً من جوفه، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب، فيرى من خارجه كبيراً، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره.ومنها: قد يكون منقوراً إلى نهاية الحد المطلوب، ولكنه يدخل فيه شيئاً يشغل فراغه من أسفله، ويثبته في قعره. فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور، فقد يضع ورقاً أو خرقاً أو جبساً أو نحو ذلك.ثانياً: من ناحية الميزان قد يبرد السنج، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها، وقد يجوف منها شيئاً ويملأ التجويف بمادة أخف منها.ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير، وقد يتخذ معايراً من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام.ومنها: أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئاً مثقلاً لاصقاً فيهان لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء.ولكيلا يظهر هذا، فتراه دائماً يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها.وهناك أنواع كثيرة، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة، فترجح بسبب قوة الدفع، فيأخذ السلعة حالاً قبل أن ترجع إلى أعلا، موهماً الناظر أنها راجحة بالميزان.أما آلة الذرع فقد يكون المقياس كاملاً واقياً، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول بالآلة إلى الخف، ويسحب بالمذروع إلى الإمام بمقدار الكف مثلاً، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماس.وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في مزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة، يأتي بطريقة تغاير الأخرى، حتى قضى ما عنده فالتفت إلى وقال لي: لا أبيع بهذا السعر، فقلت له: خذ ما تريد وزن كما أريد، فطلب ضعف الثمن فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي.وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة حينما يكون السعر مرتفعاً وتجد بائعاً يبيع برخص، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة أو مضرة الآخر.تنبيه آخر:بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر رضي الله عنه يتجوّل في السوق بنفسه، ويتفقد المكيال والميزان. يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصاناً، ويقول: لا تمنع عنا المطر.وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار، ولاسيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني وتشتد فيها الأسعار، بما يلجئ الباعة إلى التحايل أو العناد.وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر لعلمه أن تاجراً قدم ومعه زبيب بكثرة، فقيل لعمر: لماذا منعت البيع برخص؟ فقال: لأنه يفسد السوق، فيخسر اقادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة، وهذا قد ربح من قبل.تنبيه آخر:مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان، كما قال علماء الحسبة: أن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع: في نوع المكيال والميزان، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها، وإعلان الحرب أو قبول الصلح.فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح، أو أي نوع كبيراً أو صغيراً، فيجب التقييد به في الأسواق.وكذلك الوزن اتخذ الدهرم والاوقية والرطل أو الأقة أو اتخذ الجرام والكيلوا فكل ذلك له.أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلاً كقسمة صبرة من حب فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطاً، لا تختلف به المرات، بأن يكون صلباً ويمكن الكيل به.أو كذلك الوزن اتفقوا على قطعة حديد معينة، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك، لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء.أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين، فقد تقدم بيانها من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في زكاة ما يخرج من الأرض، وزكاة النقدين، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر، عند قوله تعالى: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24- 25] وبالله تعالى التوفيق.غريبة:في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يرى النائم، وبعد أن ذهب عني رأيت من يقول لي: إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا، فألحقته في أول البحث، بعد أن تأملته فوجدته صحيحاً بسبب المفاضلة.{كَلَّا بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}{ران}: بمعنى غطى كما في الحديث: «إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء، وما يزال كذلك حتى يغطيه» الحديث.وقال الشاعر: وقال أبو حيان: وأصل الرين: الغلبة: يقال: رانت الخمر على عقل شاربها واشتدت: بيان القراءات في هذه الآية:قال أبو حيان: قرئ {بل ران} بإدغام اللام في الراء وبالإظهار وقف حفص على {بل} وقفاً خفيفاً يسيراً ليتبين الإظهار.وقال أبو جعفر بن الباذش: وأجمعوا، يعني القراء، على إدغام اللام في الراء، إلاَّ ما كان من سكت حفص على {بل}، ثم يقول: {ران} وهذا الذي ذكره كما ذكر من الإجماع.ففي كتاب اللوامع عن قالون من جميع طرقه: إظهار اللام عند الراء نحو قوله: {بل رفعه الله إليه} {بل ربكم}.وفي كتاب ابن عطية.وقرأ نافع: {بل ران} من غير مدغم.وفيه أيضاً: وقرأ نافع أيضاً: بالإدغام والإمالة.وقال سيبويه: البيان والإدغام حسنان.وقال الزمخشري: وقرئ بإدغام اللام في الراء. وبالإظهار والإدغام أجود، وأمليت الألف وفخمت. اه.أما المعنى فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك وافياً في سورة الكهف عند الكلام على قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57]. الآية.{ختامه مسك وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}توجيه إل ما ينبغي أن تكون فيه المنافسة، وهي بمعنى الرغبة في الشيء.قال أبو حيان: نافس في الشيء رغب فيه، ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة، إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه.والذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن ذلك من المطالبة والمكاثرة بالشيء النفيس، فكل يسابق إليه ليحوزه لنفسه.وفي هذه الآية الكريمة لفت لأول السورة، إذا كان أولئك يسعون لجمع المال بالتطفيف، فلهم الويل يوم القيامة.وإذا كان الأبرار لفي نعيم يوم القيامة، وهذا شرابهم، فهذا هو محل المنافسة، لا في التطفيف من الحب أو أي مكيل أو موزون.{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)}وصفهم بالإجرام هنا يعشر بأنه السبب في ضحكهم من المؤمنين وتغمزهم بهم، وتقدم في سورة البقرة بيان موجب آخر في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 212].وقد بين تعالى في سورة البقرة أن الذين اتقوا فوق هؤلاء يوم القيامة، والله يرزق من يشاء بغير حساب.وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هناك، وأحال على هذه الآية في البيان لنوع السخرية، وزاد البيان في سورة الأحقاف على قوله تعالى: {وَقال الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11].ومن الدافع لهم على هذا القول ونتيجة قولهم، وساق آية المطففين عندها، وكذلك عند أول سورة الواقعة على قوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3].ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذه الحالة ليست خاصة بهذه الأمة، بل تقدم التنبيه على أنها من غيرها ممن تقدم من الأمم.ففي قوم نوح: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} [هود: 38].وكان نفس الجواب عليهم: {قال إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [هود: 38- 39].وجاء بما يفيد أكثر من ذلك حتى بالرسل في قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء: 41].ومثلها في سورة الأنبياء بنص الآية المذكورة.تنبيه:إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفه المؤمنين، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها، فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه، ويعلم أنه على سنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلاً وإما آجلاً، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات.{فَالْيوم الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) على الْأَرَائِكِ ينظرون (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا، وهو كما قال تعالى: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يوم القيامة} [البقرة: 212].وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة المؤمنون على الكلام على قوله: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} [المؤمنون: 111]، والحمد لله رب العالمين. اهـ.
|